القاعدة الكلية الرابعة (ما حرم أخذه حرم إعطاؤه)[1]
والكلام على هذه القاعدة في مسائل:
أن الشيء الذي يحرم على الإنسان أن يأخذه فإنه يحرم على غيره أن يعطيه إياه، سواءٌ أكان هذا الإعطاء على سبيل الابتداء أم على سبيل المقابلة.
المسألة الثانية: الدليل على هذه القاعدة:
دل على هذه القاعدة ما يأتي:
1- قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ ﴾ [المَائدة: 2].
ووجه الاستدلال منه: أن إعطاء الشيء المحرَّم يعد إعانةً للآخذ على أخذ المحرَّم، فهو من التعاون على الإثم، وقد نصت الآية على تحريمه، فيكون إعطاء المحرَّم محرَّماً، كما أن أخذه محرَّمٌ في الأصل.
2- قوله ﷺ: «لعن رسول الله ﷺ في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له»[2].
ووجه الاستدلال منه: أنه قد ورد في هذا الحديث لعن طالب الخمر عصراً أو شرباً أو شراءً، ولعن باذلها عصراً أو بيعاً أو حملاً، واللعن دليلٌ على التحريم، مما يدل على أن ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
3- قوله ﷺ: «لعن الله آكل الربا، وموكله»[3].
ووجه الاستدلال منه: أنه قد ورد في هذا الحديث لعن آكل الربا ومعطيه، وهذا صريحٌ في أن ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
1- أن من المتقرر شرعاً أن الزيادة الربوية يحرم أخذها، فكذلك يحرم إعطاؤها؛ لأن ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
2- أن من المتقرر شرعاً أن المال الذي يُدفع في الرشوة يحرم أخذه، فكذلك يحرم إعطاؤه؛ لأن ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
3- أنه يحرم أخذ الأجرة على أعمال الفسق كالنياحة والعزف على آلات المعازف، فكذلك يحرم إعطاء المال لمن يقوم بهذه الأعمال؛ لأن ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
تنبيه: أشار بعض العلماء إلى أنه يُستثنى من هذه القاعدة بعض الصور التي يكون فيها الأخذ محرماً إلا أن الإعطاء لا يكون محرماً، كما لو دفع السلطان مالاً إلى الهجَّائين للتخلص من أذى ألسنتهم في حال فقده للوازع، فإنه يحرم عليهم أخذ المال مقابل ذلك، ولكن يجوز للسلطان إعطاؤه.
والذي يظهر أن هذا الاستثناء يندرج تحت موضوع الضرورة الذي ثبت فيما تقدم أن لها تأثيراً في إباحة الإقدام على الأمر المحرَّم، وهنا وجدت الضرورة في حال الإعطاء ولم توجد في حال الأخذ.
القاعدة الكلية الخامسة (إذا تعذر الأصل يُصار إلى البدل)[4]
والكلام على هذه القاعدة في مسائل:
أنه يجب على المكلف أداء الأصل ابتداءً، لكن لو تعذر الأصل فإنه يجب الانتقال إلى البدل، سواءٌ أكان البدل حقيقيّاً أم حكميّاً.
المسألة الثانية: الأدلة على هذه القاعدة:
يمكن أن يستدل على هذه القاعدة بالأدلة الواردة في القرآن والسنة الدالة على مشروعية الانتقال إلى الأبدال عند تعذر المبدلات، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النِّسَاء: 43]، وقوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ ﴾ [البَقَرَة: 184]، وقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ﴾ [البَقَرَة: 196].
وقد ورد في السنة أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ فقال: هلكت. قال: «ما لك؟» قال: وقعت على أهلي وأنا صائمٌ. فقال رسول الله ﷺ: «هل تجد رقبةً؟» قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال:
لا. قال: (فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟)... الحديث[5].
وورد أيضاً أن صفية J أهدت إلى النبي ﷺ إناءً فيه طعامٌ وهو في بيت عائشة J، قالت عائشة: فما ملكت نفسي أن كسرته. فقلت: يا رسول الله، ما كفارته؟ قال: «إناءٌ كإناءٍ، وطعامٌ كطعامٍ»[6].
المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
1- أن الأصل في الطهارة أن تكون بالماء، لكن لو تعذر الماء لعدم وجوده أو للعجز عن استعماله لمرضٍ أو نحوه فإنه يُشرع الانتقال إلى بدله وهو التيمم بالتراب.
2- أن الأصل في كفارة الجماع في نهار رمضان عتق رقبةٍ، لكن لو تعذرت فإنه ينتقل إلى بدلها وهو صيام شهرين، فإذا تعذر الصيام انتقل إلى بدله وهو الإطعام.
3- أن الأصل في حق المسلم المكلف القادر أن يصوم شهر رمضان، لكن لو تعذر ذلك بسبب العجز للكبر فإنه يُشرع الانتقال إلى بدله وهو الإطعام.
4- أن الأصل في حق المتمتع أن يذبح هدياً، لكن لو تعذر الهدي فإنه يُشرع له الانتقال إلى بدله وهو الصيام.
5- أن الأصل في العين المغصوبة أن يردها الغاصب بعينها سليمةً، لكن لو تعذر رد العين لتلفها فإنه يُشرع الانتقال إلى بدلها، والبدل يختلف فالمثلي بالمثل، والقيمي بقيمته.
6- أن الأصل في حق المرأة المطلقة غير الحامل أن تعتد بالحِيَض، لكن لو تعذر ذلك لكون المرأة صغيرةً أو آيسةً فإنها تنتقل إلى البدل وهو الاعتداد بالأشهر.
المسألة الرابعة: وقفاتٌ متعلقة بالبدل[7]:
الوقفة الأولى: وقت الانتقال إلى البدل: لا يخلو البدل هنا من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يتعلق الأصل بوقتٍ يفوت بفواته، فإنه يشرع الانتقال إلى البدل مباشرةً ولو كان يُرجى حصول الأصل، وذلك كمن دخل عليه وقت الصلاة ولم يجد الماء فإن له الانتقال إلى التيمم وإنْ كان يرجو القدرة على الماء.
الحالة الثانية: أن لا يتعلق الأصل بوقتٍ يفوت بفواته ولا ضرر في تأخيره، ففي هذه الحالة لا يشرع الانتقال إلى البدل إذا كان يُرجى حصول الأصل، وذلك كمن يرجو وجود ماله الغائب ليشتري به رقبةً في كفارة القتل واليمين والجماع في الصوم.
الحالة الثالثة: أن لا يتعلق الأصل بوقتٍ يفوت بفواته وفي تأخيره ضررٌ، فهذا فيه خلافٌ، والراجح أنه يُنظر إلى مدى تحمله للضرر، وذلك كمن يرجو وجود ماله الغائب ليشتري به رقبةً في كفارة الظهار.
الوقفة الثانية: القدرة على الأصل بعد الشروع في البدل: إذا شرع في البدل ثم قدر على الأصل فهل ينتقل إلى الأصل أو يستمر في البدل؟.
لا يخلو الأمر من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون البدل مقصوداً في نفسه، فهذا يُشرع له الاستمرار في البدل، وذلك كما لو قدر على العتق في أثناء الصوم، أو قدر المتمتع على الهدي في أثناء الصوم، فإنه يشرع له الاستمرار في صومه.
الحالة الثانية: أن يكون البدل مقصوداً لغيره، فهنا يلزمه أن يعود إلى الأصل، وذلك كما لو قدر على الماء في أثناء التيمم أو بعد الفراغ منه وقبل الشروع في الصلاة، وكذا المعتدة بالأشهر لو رأت الدم فإنها تنتقل إلى الاعتداد بالحِيَض، وذلك لأن البدل هنا غير مقصودٍ فلا يستقر حكمه إلا بالشروع في المقصود.
الوقفة الثالثة: الفرق بين البدل والتابع: يجتمع البدل مع التابع في أن لكلٍّ منهما حكم أصله، فالبدل يقوم مقام المبدل وحكمه حكم الأصل، وكذلك التابع له حكم متبوعه.
ويفترقان في أمورٍ منها:
1- أن البدل والمبدل لا يجتمعان، بخلاف التابع مع متبوعه فلا مانع من اجتماعهما.
2- أن ثبوت البدل مشروطٌ بعدم المبدل، أما ثبوت التابع فمشروطٌ بثبوت المتبوع.
3- أن البدل يقوم مقام المبدل، بينما أن التابع لا يقوم مقام المتبوع.
القاعدة الكلية السادسة (التصرف على الرعية منوطٌ بالمصلحة)[8]
والكلام على هذه القاعدة في مسائل:
أن مقتضى الولاية على الرعية سواءٌ أكانت ولايةً عامةً - وهي ولاية السلطان - أم ولايةً خاصةً - وهي ولاية من دونه - أن تكون محققةً للمصلحة الدينية أو الدنيوية لهم.
ولذلك فإن ما يترتب على هذه الولاية غير لازمٍ للرعية ولا نافذٍ عليهم ما لم يكن محققاً لتلك المصلحة.
المسألة الثانية: الأدلة على هذه القاعدة:
دل على هذه القاعدة أدلةٌ من النقل والعقل:
- فأما أدلة النقل فمنها:
1- قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الأنعَام: 152].
ووجه الاستدلال منه: أن الله تعالى قد أباح لولي اليتيم التصرف في ماله بما فيه صلاحه ونماؤه، ومفهومه عدم جواز التصرف في مال اليتيم بما يؤدي إلى إفساده، مما يدل على أن تصرف الوالي بما تحت ولايته ينبغي أن يكون محققاً للمصلحة.
2- أنه قد وردت جملةٌ من الأحاديث التي تفيد التحذير من الغش للرعية وعدم النصح لهم والخيانة في أداء حقوقهم، ومنها قوله ﷺ: «ما من عبدٍ يسترعيه الله عز وجل رعيةً يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجنة»[9]، وقوله ﷺ: «ما من أميرٍ يلي أمور المسلمين ثم لم يجهد لهم وينصح لهم كنصحه وجهده لنفسه إلا لم يدخل الجنة»[10]، وهذا يعني وجوب العمل على ما يحقق مصالحهم.
وورد في الحديث ما يدل على أن طاعة الرعية لهم مقيَّدةٌ بعملهم بطاعة الله تعالى كما في قوله ﷺ: «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق»[11]، فلا تجوز طاعتهم في حال مخالفتهم لطاعة الله، مما يدل على أن عملهم بخلاف ما يحقق المصلحة للرعية يعد معصيةً لله تعالى، فلا يلزم الرعية ما ينتج من هذا التصرف.
ويُضاف إلى هذا ما أثر عن عمر رضي الله عنه من قوله: «إني أنزلتُ نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرتُ رددتُه، وإن استغنيتُ استعففتُ»[12]. وهذا من عمر رضي الله عنه بيانٌ للمنهج الذي ينبغي أن يكون عليه تصرف الإمام في المال، بحيث يكون تصرفه بحسب المصلحة التي دل عليها ما تقدم في الآية السابقة.
وقد أخذ الإمام الشافعي نصّاً للقاعدة من قول عمر رضي الله عنه هذا فقال: (منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم)[13].
- وأما دليل العقل فحاصله: أن الوالي ناظرٌ، والنظر يقتضي أن يكون مبنيّاً على تحقيق المصلحة، فإذا لم يكن تصرفه محققاً للمصلحة فلا يخلو إما أن يكون تصرفه ضرراً وإما أن يكون عبثاً، وكلاهما ليس من النظر في شيءٍ، فلا يُلتفت إلى هذا التصرف في هذه الحال بل يُلغى لعدم الفائدة فيه.
المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
1- أن مصلحة الرعية تقتضي أن يُساوي السلطان بينهم في العطاء، وأن لا يُفاضل بينهم إلا بحسب نفعهم للدين وأهل الإسلام، ولا يجوز أن يُفاضل بينهم فيما عدا ذلك؛ لأنه لا مصلحة في هذا.
2- أن مصلحة الرعية تقتضي أن يُعين الوالي لإمامة الصلاة بهم إماماً عدلاً؛ ولا يجوز أن يُعيِّن إماماً فاسقاً؛ لأن الصلاة خلف الفاسق مكروهةٌ، ولا مصلحة في ذلك.
3- أن مصلحة الوقف والواقف أن لا يُحدث الناظر عليه وظيفةً في الوقف بغير شرط الواقف ولا تقتضيها مصلحة الوقف؛ لأن نظر الناظر على الوقف مبنيٌّ على المصلحة.
4- أن مصلحة المرأة التي لا ولي لها أن يلي أمرها القاضي، وعليه أن يتصرف في تزويجها بما تقتضيه المصلحة، فيزوجها من الكفء، ولا يجوز له أن يزوجها من غير كفءٍ؛ لأنه لا مصلحة في ذلك.